القصص ضد الاستبدادكتابةممارسة: حوارمع بسمة عبد العزيز
ممارسة كتابة القصص ضد الاستبداد
حوارمع بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز هي طبيبة وكاتبة وفنانة تشكيلية ولدت بالقاهرة عام 1976 ، وتخرجت من كلية طب عين شمس عام 2000، حصلت على ماجيستير الأمراض النفسية والعصبية في 2005، ثم على دبلوما علم الاجتماع. عملت كطبيبة بمستشفى العباسية للصحة النفسية لعدة سنوات، ثم كمديرة لإدارة الإعلام بالأمانة العامة للصحة النفسية، وأخيرًا كمدير لإدارة رعاية حقوق المرضى النفسيين، وهي عضو في مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب. لها عدد من الكتب الأدبية والعلمية المنشورة ما بين مجموعات قصصية وأبحاث في علم النفس السياسي والاجتماعي، كما شاركت بعدد من الدراسات في بعض الدوريات مثل مجلة فصول، وهي تكتب أيضًا عمودًا منتظمًا في جريدة الشروق بصفحة الرأي تحت عنوان انطباعات. أقامت العديد من معارض النحت والتصوير والفوتوجرافيا الخاصة، كما شاركت في معارض جماعية متنوعة، وتحمل عضوية نقابة الفنانين التشكيليين وكذلك عضوية اتحاد الكتاب. حصلت على عدة جوائز منها جائزة ساويرس للأدب المصري فرع المجموعات القصصية عام 2008، وجائزة المسابقة المركزية للهيئة العامة لقصور الثقافة في العام نفسه، كما حصل كتابها “إغراء السلطة المطلقة” على جائزة ومنحة أحمد بهاء الدين للباحثين الشباب عام 2009.

بواسطة حداد صليحة
جرت هذه المحادثة بين مصر والجزائر عبر البريد الإلكتروني.
صليحة : شكرا جزيلا لك على القيام بهذه المقابلة. تفاجأت كثيراً وأذهلتني قراءة سيرتك الذاتية: كاتبة ونحاتة وطبيبة نفسي وناشطة. لن أسأل فقط كيف تديرين كل هذه الأشياء المختلفة جدًا والمهمة والتي تستغرق وقتًا طويلاً (أفترض) كل هذه الوظائف والمهن على الأرجح ، ولكن أيضًا كيف أصبحت مهتمًة بها وكيف تؤثر على بعضها البعض؟ كيف تفيد هذه الكتابة الخاصة بك على وجه الخصوص؟
بسمة: بدأت بالرسم في الطفولة، وكان لجدتي الفضل في اهتمامي بالألوان والأشكال، كما كان لها أيضًا الفضل في حبي للموسيقى واتجاهي للعزف والتأليف، أما عن النحت فجاء لاحقًا حين أدركت أنه يمثل عملية خلق وتجسيد لا يضاهيها الرسم، عشقتها واندمجت مع كتل الخشب ورحت أقتني الأدوات وصاحبت النحات المصري المتميز صبري ناشد في عمله ثم أقمت معرضًا لمنحوتاتي الخاصة، ورحت بالتوازي أستأنف ولعي بالكتابة التي لم أتخل عنها أثناء دراسة الطب، وحين أتممت مجموعة من القصص القصيرة سلمتها لدار ميريت ففاجأني صاحب الدار برغبته في نشرها ككتاب وقد كان، وفازت هذه المجموعة بجائزة أدبية مهمة هي جائزة ساويرس لشباب الأدباء وتلتها مجموعة أخرى ثم كتب في علم النفس السياسي وعلم الاجتماع السياسي، أتبعتها بالكتابة الروائية.
حين أنهيت دراسة الطب قررت التخصص في الأمراض النفسية والعصبية لقربها من عالم الفن بوجه عام، وتقدمت فورًا للعمل في مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، حيث قضيت سنوات عشر، وفي الوقت ذاته كنت أزاول مهنة الطب النفسي في مستشفى عام (حكومي) بعدما رفضت الجهات الأمنية تعييني في الجامعة التي درست بها رغم أن تقديراتي أهلتني للوظيفة.
“جوهر أعمالي التي تقع تحت عنوان الأدب والتي تقع تحت تصنيف الكتابات البحثية؛ هو تفكيك أوجه القمع السلطوية أيًا كان مصدرها وكشفها وضحدها، وتحرير البشر من سيطرتها.”
على كل حال كان عملي في مركز النديم من أهم المحطات التي أثرت في وشكلت معرفتي وأضفت علي صفة ”الناشطة“، كما دعمت حصيلتي من الخبرة في مجال الطب النفسي؛ فالأثر الذي يتركه فعل التعذيب على الضحايا لا يمكن تخيله ما لم يتعامل الطبيب مع هؤلاء الذين خاضوا أهوال التجربة وتعرضوا لصدماتها التي لا تقارن علميًا بأي صدمة أخرى يتعرض لها الإنسان في حياته.
لا شك أن لكل ما مارست في السنوات الماضية بصمة على كتاباتي، وقد لجأت بعد الحصول على درجة الماجيستير في الطب النفسي أن أدرس علم الاجتماع وحصلت على دبلوما فيه، لأنني رأيته جانبًا مهمًا في فهم العلاقات التي تتكون في نطاق المجتمعات وتلك خبرة أخرى تضيف لي ككاتبة مثلما أضاف لي الفن رسمًا ونحتًا وموسيقى ومثلما أضاف لي الطب النفسي الذي أتاح فهمًا أعمق للسلوك الفردي.
صليحة : متى وأين بدأت الكتابة “هنا بدن“؟
بسمة : بدأت الكتابة تقريبًا عام ٢٠١٧ في القاهرة وكانت الفكرة حاضرة في ذهني إلى درجة بعيدة، فالحدث الذي جعلته محورًا للرواية كان قاصمًا مزلزلًا، ولم يكن في استطاعتي أن أتجاهله أو أعبره دون أن أتآثر به وأعبر عن تأثري بما يرضيني.
صليحة : تبدأ الرواية بمشهد عمل حركي ممتد حيث نرى بطل الرواية ربيع المهدي وآخرين يتم اختطافهم. هل يمكنك أن تخبريني المزيد عن كيفية كتابتك لهذا المشهد؟ ما هي عمليتك في الكتابة بشكل عام؟

بسمة : هذا المشهد تحديدًا رغم أنه متخيل تمامًا أي لم أصادف له مثيلًا، لكني كتبته كما لو عشته أو شهدته من قبل، فقد حرضتني على كتابته مجموعة من الأخبار التي رحت أجمعها بدأب وحرص، إذ وجدت فيها ما يشي بهذا الاختطاف المرعب. كان وجود أمثال ربيع المهدي في الشوارع مألوفًا فإذا بهم يختفون فجأة، بعد تصريحات متعددة من المسئولين، تفيد ضرورة التخلص منهم، وإيداعهم ما يشبه المعسكرات وتربيتهم والاستفادة منهم. من هنا كتبت وتوغلت في المشهد متمثلة نفسي مكان ربيع.
ليست عندي طقوس محددة للكتابة في الفترة الأخيرة. اعتدت في سنوات سابقة أن أطلب مكانًا هادئًا وفسيحًا، ثم تضاءلت متطلباتي بمرور الوقت، وصار بإمكاني أن أكتب في أي مكان وأي ساعة من اليوم. صباح مبكر أو ليل متأخر، مقهى أو حديقة أو نادي، أو حتى حجرة ضيقة بل وأحيانًا في السيارة حين يتعطل المرور ويتوقف تمامًا سير العربات.
صليحة : هل كان تكوين صوت طفل أو في هذه الحالة فتى في سن المراهقة صعبًا؟ ما هي الأصوات الأكثر صعوبة في ل التكوين الشباب أم الكبار؟ وأي منها استمتعت اكثر في البناء؟ بالنسبة لي كقارئ ، استمتعت بالقراءة عن عايدة أكثر من غيرها. لا أعرف ما إذا كان ذلك بسبب أنني شخص بالغ (إذا كان بإمكاني أن أقول ذلك) أو لأنها امرأة أيضًا ولكن ما أنا متأكدة منه هو أنني كنت ساكون مثلها في البداية عندما كان لا يزال لديها أسئلة وشكوك والشك والتناقض تجاه ما كانت على وشك القيام به. شعرت أنني سأكون مثلها تمامًا في هذا الموقف. لذا ، نعم ، كانت أجزائها هي أكثر الأجزاء التي استمتعت بقراءتها.
بسمة : في الحقيقة لم أجد صعوبة تعوق الكتابة أو تجعلها غير مستساغة، ففي سن المراهقة يبدأ الشخص في طرح التساؤلات بكثرة والبحث عن إجابات وكثيرها يتعلق بوجوده. هي فترة خصوبة فكرية وأفق مفتوح وهو ما جعلها موضعًا ثريًا بالنسبة لي خلال تكوين الصوت، فبناء الرواية يطرح بذاته فيضًا من أسئلة كبرى قد يتشارك فيها الطفل والمراهق والناضج، ومن ناحيتي استمتعت بتقمص صوت ربيع وكان الأقرب إلى نفسي طيلة فترة الكتابة، ربما لأنني بطبعي أسعى وراء صوغ التساؤلات أكثر من التفتيش وراء إجابات محددة ومقيدة.
كثير من القراء الذين تواصلوا معي أحبوا عايدة بالفعل، فهي صوت الرشد والاتزان، لا مانع لديها من تقديم الدعم لكنها أيضًا لا تلغي عقلها ولا تتقولب ببساطة وتضع نفسها في الإطار الذي يتوافق عليه الآخرون. باختصار هي الأقرب لما يجب أن يكون عليه البشر، من ناحية التفاعل والتعاطف ثم المراجعة والتفكير.

صليحة : هناك معارضة في الرواية مثل الرؤوس مقابل الابدان ، والمتظاهرين ضد الحكومة ، ويوسف ضد عماد ، لكن هناك أيضًا أوجه تشابه شعرت بها في الطريقة التي تم بها إقناع الابدان والمتظاهرين في الفضاء والحفاظ عليها في وضع مثل خلق الشعور بالانتماء إلى مجتمع ، وتوفير احتياجاتهم الأساسية ، وتوفير بعض أشكال الترفيه وإلقاء المحاضرات والخطب. شيء جعل المجموعتين متشابهتين إلى حد كبير. هل يمكن أن تخبريني المزيد عن هذه المعارضات والتوازيات؟ هل كانت هذه طريقتك لتقولي إنه على الرغم من أن المعاملة التي خضعت لها كلتا المجموعتين ، في البداية على وجه الخصوص ، قد تبدو مختلفة على السطح ، فلا شيء يفصل بينهما حقًا؟
بسمة : هذا حقيقي تمامًا، التوازيات قائمة في الرواية ومقصودة؛ فالقمع وإن اختلفت وسائله وأساليبه واحد، وأثره على البشر واحد، وما يسفر عنه من تبعات متشابه. السلطة القامعة قد تستخدم طرقًا متعددة في السيطرة على الناس وتوجيههم؛ ربما تستغل الدين أو تستعمل القوة الغاشمة والبطش، وفي كل الأحيان تلجأ لتزييف الوعي وخلق وعي جديد داعم لوجودها وبقاءها وأهدافها. قد ينخدع الناس لفترة لكنهم يدركون في نهاية الأمر الحقائق، وسواء تمكنوا من تغيير واقعهم أو عجزوا؛ فإنهم يدركون طبيعة هذه السلطة ومقدار تلاعبها بهم، ولا شك عندي أن انتزاع الحقوق وردها لأصحابها آت وإن طال الوقت.
صليحة: أحب قراءة مراجعات الكتب أو مقالات النقد الأدبي أو المقالات عن الكتاب المختلفين بشكل عام ، وقد قرأت في العديد من تلك المقاطع تخمينات حول ما يبحث عنه الكاتب أو كتاباتهم ، وربما يكون موضوعهم الرئيسي. هل تقولين أنك تبحثين عن شيء من الكتابة؟ ما هو الموضوع الرئيسي لأعمالك في رأيك؟
بسمة : جوهر أعمالي التي تقع تحت عنوان الأدب والتي تقع تحت تصنيف الكتابات البحثية؛ هو تفكيك أوجه القمع السلطوية أيًا كان مصدرها وكشفها وضحدها، وتحرير البشر من سيطرتها. مثلت هذه الرغبة دافعًا قويًا وملحًا في كافة كتاباتي؛ بدءًا من ”إغراء السلطة المطلقة“ ومرورًا بـ ”ذاكرة القهر” ووصولًا إلى ”سطوة النص“ الذي يعد دراسة في تحليل الخطاب، كذلك شكلت لب الروايتين اللتين نشرتهما حتى الآن: ”الطابور“ ، و“هنا بدن“.

صليحة: وجدت الكتابة من طرف وجهات نظر مختلفة مثيرة للفضول وذات اضافة كبيرة في الرواية. لماذا اخترت الكتابة في منظورين مختلفين ولماذا استخدمت رواية ضمير المتكلم وسرد ضمير المخاطب للشخصيتين الرئيسيتين؟ وبأي طريقة ساعد هذا الاختيار في إيصال المواضيع والرسائل السياسية للرواية؟
بسمة : فكرت قبل اختيار الأصوات طويلًا وانتهيت إلى قناعة تامة بإعطاء الفرصة لربيع المهدي كي يعبر عن ذاته ورؤيته لأقرانه وللجبارين الذين يقودونهم، فربيع هو المحور في هذا الخط، أما عن البراح فالراوي العليم كان الأقرب كي أتمكن من تقديم وصف لكافة الشخصيات المتباينة التي قد تتقاطع مساراتها وقد تبقى منعزلة لكنها تشترك في الوجود داخل الفضاء ذاته. ارتحت لهذا الاختيار فور شروعي في الكتابة ولم أفكر في التراجع عنه ولا في تجربة اختيارات أخرى؛ إذ تمكنت من خلاله –على ما آرجو– من كشف الزوايا والأركان المخفية سواء في المعسكر أو في البراح.
صليحة : من هو أول ناقد كتابي (غير نفسك) لك؟ كيف تشعر عائلتك ودائرتك المقربة من كتاباتك؟
بسمة : كان الناقد والروائي المصري القدير علاء الديب الذي رحل عن عالمنا منذ سنوات، من أهم الأشخاص الذين أتوثب لمعرفة رأيهم في كتاباتي الأدبية، وكثيرًا ما كان يحفزني على الكتابة الروائية راغبًا ألا تشغلني الأعمال الأخرى عنها. أما عن الكتابات البحثية فأعهد بها فور الانتهاء إلى الدكتور عماد أبو غازي صاحب الإسهام الملهم في الكتابات التاريخية، وهو الذي يمدني دومًا بالنقد الموضوعي المبني على قراءة واعية متأنية وفاحصة، أتوق للاستفادة بها.
صليحة : أين تجدين قصصك عادة؟ أعني من أين تستلهميها؟ هل يلهمك الكتاب الآخرون؟ وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف ولماذا؟
بسمة : كتاباتي أجدها في كل ما أصادف من بشر ومواقف وعلاقات. قد يبدو بعضها تافهًا عابرًا؛ لكنه يحمل بصمة تتبلور ويتم صقلها وإزالة الشوائب عنها أثناء الكتابة. حين أقرأ الأدب تكون قراءتي للمتعة الصافية، أفرغ ذهني من كل شيء وأندمج مع القصة وإذا لم يحدث تركتها فورًا.
صليحة: لقد قرأت فقط النسخة المترجمة باللغة الإنجليزية من الرواية (أتمنى أن أصلح ذلك وأقرأ النسخة العربية قريبًا أيضًا). قرأت أن روايتك الأولى “ الطابور” قد تُرجمت أيضًا إلى لغات أخرى من بينها الإنجليزية. ما رأيك في الترجمة بشكل عام؟ ما هو شعورك بشكل خاص حيال ترجمات رواياتك؟ كيف كانت العملية بالنسبة لك من حيث التعاون مع المترجمين؟ وهل تعتقدين أن كلا ترجمات أعمالك نقلت الرسائل الدقيقة التي ربما كنت ترغبين في إيصالها؟
بسمة : الترجمة عمل صعب، يحتاج إلى تفرغ تام ودراية بعوالم موازية للنص ومتداخلة معه؛ البيئة والثقافة والموروث الشعبي وغيرها من جوانب لا بد وأن يلم بها المترجم في تعرضه لعمل أدبي ينتمي لثقافة أخرى. أما عن تجربتي الشخصية فكانت حتى الآن مثمرة ومفيدة، تعاونت مع المحريين والمترجمين بصورة مكثفة، وأظن أن النتيجة النهائية كانت مرضية للقارئ، وذاك تعكسه الرسائل التي ترد لي والمقالات النقدية التي تنشرها الدوريات الأجنبية المتخصصة، والتي أشعر مع قراءة أغلبها بحجم الجهد المبذول في الترجمة، بما جسد عن جدارة النص الذي كتبته في لغته الأصلية.
صليحة: شكرا جزيلا لك. لقد أحببت واستمتعت بكل إجاباتك.
بسمة: وأنا أيضًا. لقد استمتعت بالإجابة على أسئلتك الممتازة.
